كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
الكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه: أحدها: أن أصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع ومنه الكتيبة سميت بذلك لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض وتضم ماله إلى ماله وثانيها: يحتمل أن يكون اللفظ مأخوذًا من الكتاب ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي لي بذلك، أو كتبت لي كتابًا عليك بالوفاء بالمال وكتبت على العتق، وهذا ما ذكره الأزهري وثالثها: إنما سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالًا ولكنه يقع مؤجلًا ليكون متمكنًا من الاكتساب وغيره حين ما انقبضت يد السيد عنه، ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتاب لما يقع فيه من الأجل، قال تعالى: {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].
المسألة الثالثة:
قال محيي السنة: الكتابة أن يقول لمملوكه كاتبتك على كذا ويسمى مالًا معلومًا يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم وما يؤدي في كل نجم، ويقول إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو نوي ذلك بقلبه ويقول العبد قبلت، وفي هذا الضبط أبحاث.
البحث الأول: قال الشافعي رحمه الله: إن لم يقل بلسانه أو لم ينو بقلبه إذا أديت ذلك المال فأنت حر لم يعتق، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا حلاجة إلى ذلك، حجة أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى: {فكاتبوهم} خال عن هذا الشرط فوجب أن تصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع، حجة الشافعي رحمه الله: أن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، لأن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بملكه، بل قوله كاتبتك كتابة في العتق فلابد من لفظ العتق أو نيته.
البحث الثاني: لا تجوز الكتابة الحالة عند الشافعي، وتجوز عند أبي حنيفة، وجه قول الشافعي رحمه الله أن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال، وإذا عقد حالًا توجهت المطالبة عليه في الحال، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل مقصود العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز، لأنه حين العقد يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق عن أدائه، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى: {فكاتبوهم} مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة، وأيضًا لما كان مال الكتابة بدلًا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان السلع المبيعة فيجوز عاجلًا وآجلًا، وأيضًا أجمعوا على جواز العتق معلقًا على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله، لأنه بدل عن العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما.
البحث الثالث: قال الشافعي رحمه الله: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، روى أن عثمان رضي الله عنه غضب على عبده، فقال: لأضيقن الأمر عليك، ولأكاتبنك على نجمين، ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل، لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم لأنه عقد إرفاق، ومن شرط الإرفاق التنجيم ليتيسر عليهم الأداء.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز الكتابة على نجم واحد، لأن ظاهر قوله: {فكاتبوهم} ليس فيه تقييد.
المسألة الرابعة:
تجوز كتابة المملوك عبدًا كان أو أمة، ويشترط عند الشافعي رحمه الله أن يكون عاقلًا بالغًا، فإذا كان صبيًا أو مجنونًا لا تصح كتابته، لأن الله تعالى قال: {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: تجوز كتابة الصبي ويقبل عنه المولى.
المسألة الخامسة:
يشرط أن يكون المولى مكلفًا مطلقًا، فإن كان صبيًا أو مجنونًا أو محجورًا عليه بالسفه لا تصح كتابته كما لا يصح بيعه، ولأن قوله: {فكاتبوهم} خطاب فلا يتناول غير العاقل، وعند أبي حنيفة رحمه الله تصح كتابة الصبي بإذن الولي.
المسألة السادسة:
اختلف العلماء في أن قوله: {فكاتبوهم} أمر إيجاب أو أمر استحباب؟ فقال قائلون هو أمر إيجاب، فيجب على الرجل أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيرًا، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهذا قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد بن جرير، واحتجوا عليه بالآية والأثر.
أما الآية فظاهر قوله تعالى: {فكاتبوهم} لأنه أمر وهو للإيجاب، ويدل عليه أيضًا سبب نزول الآية، فإنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارًا، وأما الأثر فما روي أن عمر أمر أنسًا أن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى، فرفع عليه الدرة وضربه وقال: {فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وحلف عليه ليكاتبنه، ولو لم يكن ذلك واجبًا لكان ضربه بالدرة ظلمًا، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة فجرى ذلك مجرى الإجماع، وقال أكثر الفقهاء إنه أمر استحباب وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري واحتجوا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه» وأنه لا فرق أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة وهذه طريقة المعاوضات أجمع وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟ قلنا إذا ورد الشرع به فيجب أن يجوز كما إذا علق عتقه على مال يكتسبه فيؤديه أو يؤدي عنه صار سببًا لعتقه.
السؤال الثاني: هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه؟ لولا الكتابة؟ قلنا نعم لأنه لو دفع إليه الزكاة، ولم يكاتب لم يحل له أن يأخذها وإذا صار مكاتبًا حل له وإذا دفع إلى مولاه حل له، سواء أدى فعتق أو عجز فعاد إلى الرق، ويستفيد أيضًا أن الكتابة تبعثه على الجد والاجتهاد في الكسب، فلولاها لم يكن ليفعل ذلك، ويستفيد المولى الثواب لأنه إذا باعه فلا ثواب، وإذا كاتبه ففيه ثواب، ويستفيد أيضًا الولاء لأنه لو عتق من قبل غيره لم يكن له ولاء وإذا عتق بالكتابة فالولاء له، فورد الشرع بجواز الكتابة لما ذكرناه من الفوائد.
أما قوله تعالى: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فذكروا في الخير وجوهًا: أحدها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن علمتم لهم حرفة، فلا تدعوهم كلا على الناس» وثانيها: قال عطاء الخير المال وتلا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي ترك مالًا، قال وبلغني ذلك عن ابن عباس وثالثها: عن ابن سيرين قال إذا صلى وقال النخعي وفاء وصدقًا وقال الحسن صلاحًا في الدين ورابعها: قال الشافعي رحمه الله المراد بالخير الأمانة والقوة على الكسب، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما فإنه ينبغي أن يكون كسوبًا يحصل المال ويكون أمينًا يصرفه في نجومه ولا يضيعه فإذا فقد الشرطان أو أحدهما لا يستحب أن يكاتبه، والأقرب أنه لا يجوز حمله على المال لوجهين: الأول: أن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرًا، لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال الثاني: أن العبد لا مال له بل المال لسيده، فالأولى أن يحمل على ما يعود على كتابته بالتمام، وهو الذي ذكره الشافعي رحمه الله وهو أن يتمكن من الكسب ويوثق به بحفظ ذلك لأن كل ذلك مما يعود على كتابته بالتمام ودخل فيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الخير لأنه عليه الصلاة والسلام فسره بالكسب وهو داخل في تفسير الشافعي رحمه الله.
أما قوله: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اختلفوا في المخاطب بقوله: {وَءَاتُوهُم} على وجوه: أحدها: أنه هو المولى يحط عنه جزءًا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءًا مما أخذ منه، وهؤلاء اختلفوا في قدره فمنهم من جعل الخيار له وقال يجب أن يحط قدرًا يقع به الاستغناء، وذلك يختلف بكثرة المال وقلته ومنهم من قال يحط ربع المال، روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلامًا له فترك له ربع مكاتبته، وقال إن عليًا كان يأمرنا بذلك ويقول وهو قول الله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} فإن لم يفعل فالسبع، لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدًا له بخمس وثلاثين ألفًا ووضع عنه خمسة آلاف، ويروى أن عمر كاتب عبدًا له فجاء بنجمه فقال له اذهب فاستعن به على أداء مال الكتابة، فقال المكاتب لو تركته إلى آخر نجم؟ فقال إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية، وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز.
وثانيها: المراد وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات في قوله: {وَفِي الرقاب} وعلى هذا فالخطاب لغير السادة وهو قول الحسن والنخعي، ورواية عطاء عن ابن عباس، وأجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع صدقته المفروضة إلى مكاتب نفسه.
وثالثها: أن هذا أمر من الله تعالى للسادة والناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم، وهذا قول الكلبي وعكرمة والمقاتلين والنخعي وقال عليه الصلاة والسلام:
«من أعان مكاتبًا على فك رقبته أظله الله تعالى في ظل عرشه»، وروي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني عملًا يدخلني الجنة قال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة، فقال أليسا واحدًا؟ فقال لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» قالوا ويؤكد هذا القول وجوه: أحدها: أنه أمر بإعطائه من مال الله تعالى وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب.
وثانيها: أن قوله: {من مال الله الذي آتاكم} هو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح.
وثالثها: أن ما آتاه الله فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه، وما سقط عقيب العقد لم يحصل له عليه يد ملك، فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه، فإن قيل هاهنا وجهان يقدحان في صحة هذا التأويل أحدهما: أنه كيف يحل لمولاه إذا كان غنيًا أن يأخذ من مال الصدقة.
والثاني: أن قوله: {وَءَاتُوهُم} معطوف على قوله: {فكاتبوهم} فيجب أن يكون المخاطب في الموضعين واحدًا، وعلى هذا التأويل يكون المخاطب في الآية الأولى السادات، وفي الثانية سائر المسلمين قلنا: أما الأول فجوابه أن تلك الصدقة تحل لمولاه وكذلك إذا لم تقف الصدقة بجميع النجوم وعجز عن أداء الباقي كان للمولى ما أخذه لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد الكتابة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها منه.
يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» والجواب: عن الثاني أنه قد يصح الخطاب لقوم ثم يعطف عليه بمثل لفظه خطابًا لغيرهم، كقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [البقرة: 231] فالخطاب للأزواج ثم خاطب الأولياء بقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وقوله: {مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ} والقائلون غير المبرئين فكذا هاهنا قال للسادة {فكاتبوهم} وقال لغيرهم {وَءَاتُوهُم} أو قال لهم ولغيرهم.
المسألة الثانية:
قال الشافعي رحمه الله يجب على المولى إيتاء المكاتب وهو أن يحط عنه جزءًا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءًا مما أخذ منه، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه إنه مندوب إليه لكنه غير واجب، حجة الشافعي رحمه الله ظاهر قوله: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} والأمر للوجوب فقيل عليه إن قوله: {فكاتبوهم} وقوله: {وَءَاتُوهُم} أمران وردا في صورة واحدة فلم جعلت الأولى ندبًا والثاني إيجابًا؟ وأيضًا فقد ثبت أن قوله: {وَءَاتُوهُم} ليس خطابًا مع الموالي بل مع عامة المسلمين.
حجة أبي حنيفة رحمه الله من حيث السنة والقياس، أما السنة فما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد» فلو كان الحط واجبًا لسقط عنه بقدره، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعيتني ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا فقالت عائشة رضي الله عنها ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعًا ويكون ولاؤك لي فعلت، فأبوا فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال «لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق» وجه الاستدلال أنها ما قضت من كتابتها شيئًا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها بالكلية وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله النكر عليها، ولم يقل إنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها فثبت قولنا.